كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال آخرون: يجوز دفع ذلك إليه في أيام، وإنّ تعدّد الأيام يقوم مقام أعداد المساكين.
وقال أبو حنيفة: يجزئه ذلك؛ لأن المقصود من الآية التعريف بقدر ما يطعم، فلو دفع ذلك القدر لواحد أجزأه.
ودليلنا نص الله تعالى على العشرة فلا يجوز العدول عنهم، وأيضًا فإن فيه إحياء جماعة من المسلمين وكفايتهم يومًا واحدًا، فيتفرّغون فيه لعبادة الله تبارك وتعالى ولدعائه، فيغفر للمكفر بسبب ذلك.
والله أعلم.
التاسعة والعشرون قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ} الضمير على الصناعة النحوية عائد على «ما» ويحتمل في هذا الموضع أن تكون بمعنى الذي، ويحتمل أن تكون مصدرية.
أو يعود على إثم الحِنث وإن لم يجر له ذكر صريح ولكن المعنى يقتضيه.
الموفية ثلاثين قوله تعالى: {أَهْلِيكُمْ} هو جمع أهل على السلامة.
وقرأ جعفر بن محمد الصادق: {أَهَالِيكُمْ} وهذا جمع مُكَسَّر؛ قال أبو الفتح: أهالٍ بمنزلة ليالٍ واحدها أَهْلاَت ولَيْلات؛ والعرب تقول: أَهْلٌ وَأَهْلَةٌ.
قال الشاعر:
وَأَهْلَةِ وُدً قد تَبَرَّيْتُ وُدَّهُمْ ** وأَبليْتَهُمْ في الجَهْدِ حَمْدِي ونَائِلي

يقول: تعرّضت لودهم؛ قاله ابن السكيت.
الحادية والثلاثون قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} قرئ بكسر الكاف وضمها هما لغتان مثل إسوة وأُسوة.
وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن السَّمَيْقع اليماني: {أَوْ كإسْوَتِهِم} يعني كإسوة أهلِك.
والكسوة في حق الرجال الثوب الواحد الساتر لجميع الجسد؛ فأما في حق النساء فأقل ما يجزئهن فيه الصلاة، وهو الدّرع والخمار، وهكذا حكم الصغار.
قال ابن القاسم في «العتبية» تُكسى الصغيرة كسوة كبيرة، والصغير كسوة كبير؛ قياسًا على الطعام.
وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي: أقل ما يقع عليه الاسم وذلك ثوب واحد؛ وفي رواية أبي الفرج عن مالك، وبه قال إبراهيم النَّخَعي ومغيرة: ما يستر جميع البدن؛ بناء على أن الصلاة لا تجزىء في أقل من ذلك.
وروى عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: نعم الثوب التُّبَّان؛ أسنده الطبري.
وقال الحَكَم بن عتيبة تجزىء عمامة يلف بها رأسه، وهو قول الثوري.
قال ابن العربي: وما كان أحرصني على أن يقال: إنه لا يجزىء إلا كسوة تستر عن أَذَى الحر والبرد كما أن عليه طعامًا يشبعه من الجوع فأقول به، وأما القول بمئزر واحد فلا أدريه؛ والله يفتح لي ولكم في المعرفة بعونه.
قلت: قد راعى قوم معهود الزي والكسوة المتعارفة؛ فقال بعضهم: لا يجزىء الثوب الواحد إلا إذا كان جامعًا مما قد يُتَزَيا به كالكساء والمِلْحَفة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب وإزار، أو رداء أو قميص أو قَبَاء أو كساء.
وروي عن أبي موسى الأشعري أنه أمر أن يكسَى عنه ثوبين ثوبين؛ وبه قال الحسن وابن سيرين وهذا معنى ما اختاره ابن العربي.
والله أعلم.
الثانية والثلاثون لا تجزىء القيمة عن الطعام والكسوة؛ وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: تجزىء؛ وهو يقول تجزىء القيمة في الزكاة فكيف في الكفّارة! قال ابن العربي: وعُمدته أن الغرض سدّ الْخَلَّة، ورفع الحاجة؛ فالقيمة تجزىء فيه.
قلنا: إن نظرتم إلى سدّ الْخَلَّة فأين العبادة؟ وأين نص القرآن على الأعيان الثلاثة، والانتقال بالبيان من نوع إلى نوع؟!
الثالثة والثلاثون إذا دفع الكسوة إلى ذِمي أو إلى عبد لم يجزه.
وقال أبو حنيفة: يجزئه؛ لأنه مسكين يتناوله لفظ المسكنة، ويشتمل عليه عموم الآية.
قلنا هذا يخصه بأن يقول جزء من المال يجب إخراجه للمساكين فلا يجوز دفعه للكافر؛ أصله الزكاة؛ وقد اتفقنا على أنه لا يجوز دفعه للمرتد؛ فكل دليل خصّ به المرتد فهو دليلنا في الذمي.
والعبد ليس بمسكين لاستغنائه بنفقة سيده فلا تدفع إليه كالغني.
الرابعة والثلاثون قوله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} التحرير الإخراج من الرق؛ ويستعمل في الأَسْر والمشقات وتعب الدنيا ونحوها.
ومنه قول أمّ مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} أي من شُغُوب الدنيا ونحوها.
ومن ذلك قول الفَرَزْدق بن غالب.
أبني غُدانَة إنني حَرَّرتُكم ** فوهبتُكم لعطيِة بن جِعَالِ

أي حررتكم من الهجاء.
وخصّ الرقبة من الإنسان، إذ هو العضو الذي يكون فيه الغُلّ والتوثق غالبًا من الحيوان، فهو موضع المِلك فأضيف التحرير إليها.
الخامسة والثلاثون لا يجوز عندنا إلا إعتاق رقبة مؤمنة كاملة ليس فيها شرك لغيره، ولا عَتَاقة بعضها، ولا عِتق إلى أجل، ولا كِتابة ولا تدبير، ولا تكون أمّ ولد ولا من يَعتق عليه إذا ملكه، ولا يكون بها من الهَرم والزَّمانة ما يضرّ بها في الاكتساب، سليمة غير معيبة؛ خلافًا لداود في تجويزه إعتاق المعيبة.
وقال أبو حنيفة: يجوز عتق الكافرة؛ لأن مطلق اللفظ يقتضيها.
ودليلنا أنها قربة واجبة فلا يكون الكافر محلًا لها كالزكاة؛ وأيضًا فكل مطلَق في القرآن من هذا فهو راجع إلى المقيَّد في عتق الرقبة في القتل الخطأ.
وإنما قلنا: لا يكون فيها شِرك، لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وبعض الرقبة ليس برقبة.
وإنما قلنا لا يكون فيها عقد عتق؛ لأن التحرير يقتضي ابتداء عِتق دون تنجيز عِتق مقدّم.
وإنما قلنا: سليمة؛ لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} والإطلاق يقتضي تحرير رقبة كاملة والعمياء ناقصة.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يعتق امرءا مسلمًا إلا كان فكاكه من النار كلُّ عضو منه بعضو منها حتى الفرج بالفرج» وهذا نص.
وقد روى في الأعور قولان في المذهب، كذلك في الأصم والخصِيّ.
السادسة والثلاثون من أخرج مالا ليعتق رقبة في كفارة فتلِف كانت الكفّارة باقية عليه، بخلاف مخرِج المال في الزكاة ليدفعه إلى الفقراء، أو ليشتري به رقبة فتلِف، لم يكن عليه غيره لامتثال الأمر.
السابعة والثلاثون اختلفوا في الكفّارة إذا مات الحالف؛ فقال الشافعي وأبو ثور: كفّارات الأيمان تخرج من رأس مال الميت.
وقال أبو حنيفة: تكون في الثلث؛ وكذلك قال مالك إن أوصى بها.
الثامنة والثلاثون من حلف وهو موسر فلم يُكفِّر حتى أعسر، أو حَنِث وهو مُعْسر فلم يُكفِّر حتى أيسر، أو حَنِث وهو عبد فلم يُكفِّر حتى عَتَق، فالمراعاة في ذلك كله بوقت التكفير لا وقت الحِنْث.
التاسعة والثلاثون روى مسلم عن أبي هُريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «واللَّهِ لأَنْ يَلَجَّ أحدُكم بيمينه في أهلِه آثَمُ له عند الله من أن يعطِي كفارته التي فرض الله» اللجاج في اليمين هو المضي على مقتضاه، وإن لزم من ذلك حرج ومشقة، وترك ما فيه منفعة عاجلة أو آجلة؛ فإن كان شيء من ذلك فالأُولى به تحنيث نفسه وفعل الكفارة، ولا يعتلُّ باليمين كما ذكرناه في قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] وقال عليه السلام: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفِّر عن يمينه وليفعل الذي هو خير» أي الذي هو أكثر خيرًا.
الموفية أربعين روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليمين على نيّة المستحلِف» قال العلماء: معناه أنّ من وجبت عليه يمين في حقّ وجب عليه فحلف وهو ينوي غيره لم تنفعه نِيته، ولا يخرج بها عن إثم تلك اليمين، وهو معنى قوله في الحديث الآخر: «يَمينُك على ما يُصدِّقك عليه صاحبك» ورُوي «يُصدِّقك به صاحبك» خرّجه مسلم أيضًا.
قال مالك: من حلف لطالبه في حقّ له عليه، واستثنى في يمينه، أو حرّك لسانه أو شفتيه، أو تكلم به، لم ينفعه استثناؤه ذلك؛ لأن النية نيّة المحلوف له؛ لأن اليمين حق له، وإنما تقع على حسب ما يستوفيه له الحاكم لا على اختيار الحالف؛ لأنها مستوفاة منه.
هذا تحصيل مذهبه وقوله.
الحادية والأربعون قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} معناه لم يجد في مِلكه أحد هذه الثلاثة؛ من الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة بإجماع؛ فإذا عدم هذه الثلاثة الأشياء صام.
والعدم يكون بوجهين إمّا بمغِيب المال عنه أو عدمه؛ فالأوّل أن يكون في بلد غير بلده فإن وجد من يسلفه لم يجزه الصوم، وإن لم يجد من يسلفه فقد اختلف فيه؛ فقيل: ينتظر إلى بلده؛ قال ابن العربي: وذلك لا يلزمه بل يكفّر بالصيام؛ لأن الوجوب قد تقرّر في الذمة والشرط من العدم قد تحقق فلا وجه لتأخير الأمر؛ فليكفّر مكانه لعجزه عن الأنواع الثلاثة؛ لقوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ}.
وقيل: من لم يكن له فضل عن رأس ماله الذي يعيش به فهو الذي لم يجد.
وقيل: هو من لم يكن له إلا قُوت يومه وليلته، وليس عنده فضل يطعمه؛ وبه قال الشافعي واختاره الطَّبَريّ، وهو مذهب مالك وأصحابه.
ورُوى عن ابن القاسم أنّ من تفضل عنه نفقة يومه فإنه لا يصوم؛ قال ابن القاسم في كتاب ابن مزين: إنه إن كان للحانث فضل عن قُوت يومه أطعم إلاّ أن يخاف الجوع، أو يكون في بلد لا يُعطَف عليه فيه.
وقال أبو حنيفة: إذا لم يكن عنده نِصاب فهو غير واجد.
وقال أحمد وإسحاق: إذا كان عنده قُوت يوم وليلة أطعم ما فضل عنه.
وقال أبو عبيد: إذا كان عنده قوت يومه وليلته وعياله وكسوة تكون لكفايتهم، ثم يكون بعد ذلك مالكًا لقدر الكفّارة فهو عندنا واجد.
قال ابن المنذر: قول أبي عُبيد حَسنٌ.
الثانية والأربعون قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} قرأها ابن مسعود {متتابعات} فيقيد بها المطلق؛ وبه قال أبو حنيفة والثوريّ، وهو أحد قولي الشافعيّ واختاره المُزَنيّ قياسًا على الصوم في كفّارة الظِّهار، واعتبارًا بقراءة عبد الله.
وقال مالك والشافعي في قوله الآخر: يجزئه التفريق؛ لأن التتابع صفة لا تجب إلا بنصّ أو قياس على منصوص وقد عُدِما.
الثالثة والأربعون من أفطر في يوم من أيام الصيام ناسيًا فقال مالك: عليه القضاء؛ وقال الشافعي: لا قضاء عليه؛ على ما تقدّم بيانه في الصيام في «البقرة».
الرابعة والأربعون هذه الكفّارة التي نص الله عليها لازمة للحر المسلم باتفاق.
واختلفوا فيما يجب منها على العبد إذا حَنِث؛ فكان سفيان الثوريّ والشافعيّ وأصحاب الرأي يقولون: ليس عليه إلا الصوم، لا يجزئه غير ذلك؛ واختلف فيه قول مالك، فحكى عنه ابن نافع أنه قال: لا يُكفِّر العبد بالعتق؛ لأنه لا يكون له الولاء، ولكن يُكفِّر بالصدقة إن أَذِن له سيده؛ وأصوب ذلك أن يصوم.
وحَكَى ابن القاسم عنه أن قال: إن أطعم أو كسا بإذن السيد فما هو بالبيّن، وفي قلبي منه شيء.
الخامسة والأربعون قوله تعالى: {ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} أي تغطية أيمانكم؛ وكَفَّرت الشيء غطيته وسترته وقد تقدّم.
ولا خلاف أن هذه الكفّارة في اليمين بالله تعالى، وقد ذهب بعض التابعين إلى أن كفّارة اليمين فعل الخير الذي حلف على تركه.
وتَرْجَم ابن ماجه في سننه «من قال كفّارتُها تَرْكُها» حدّثنا عليّ بن محمد حدّثنا عبد الله بن نُمَير عن حارثة بن أبي الرجال عن عَمْرة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف في قطيعة رحِم أو فيما لا يصلح فبِرُّه ألاَّ يتمَّ على ذلك» وأَسنَد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليتركها فإنّ تركها كفارتُها».